في لحظة حزينة صمت فيها المشهد الفني والإعلامي، خيم الحزن على القلوب بعد أن ترجل فارس الكلمة واللحن، الفنان اللبناني الكبير زياد الرحباني، تاركًا وراءه إرثًا فنيًا قلّ نظيره، ومسيرة مليئة بالإبداع والجرأة والصدق. كان رحيله أشبه بصفعة موجعة لعشاق فنه ومحبيه من مختلف الأجيال، الذين وجدوا في أعماله انعكاسًا لآلامهم، وهمومهم، وأحلامهم، حيث لم يكن مجرد موسيقي أو كاتب مسرحي، بل حالة استثنائية من النقاء الفني والتمرد الإبداعي.
فور إعلان النبأ، امتلأت منصات التواصل الاجتماعي برسائل الوداع والتأبين، وتدفقت كلمات الفنانين والمثقفين والإعلاميين الذين نعوه بمرارة وحنين، مشيرين إلى حجم الفراغ الذي سيتركه غيابه، ليس فقط في الساحة الفنية اللبنانية والعربية، بل في وجدان كل من تأثر بكلماته وموسيقاه وأفكاره. لم يكن زياد فنانًا عاديًا، بل كان مرآة عصره، ناقدًا لاذعًا للواقع، ومتمردًا على المألوف، بقدر ما كان عاشقًا للناس وللوجع اللبناني اليومي، والذي حوّله عبر أعماله إلى فن راقٍ يلامس العمق الإنساني.
واستحضر العديد من زملائه وأصدقائه لحظاتهم الخاصة معه، تلك الجلسات التي تفيض بالنقاشات الساخنة والمواقف الصادقة، وأحيانًا الساخرة، التي لم يكن زياد يتردد في التعبير عنها بكل جرأة. فتارةً كان يحدثك عن السياسة، وتارة عن الحياة، لكنه في كل مرة كان يُشعل فيك شعورًا مختلفًا، وكأنك تجلس أمام كائن فني مغاير لا يشبه أحدًا. وقد اعتبره الكثيرون ضميرًا فنيًا نادرًا، لا يساوم ولا يجامل، بل يكتب ويلحن من أعماق الواقع ومن جراح الناس.
زياد الرحباني لم يكن مجرد نجل السيدة فيروز، بل كان ظاهرة فنية متكاملة، وضع بصمته الخاصة وخلق هويته المستقلة، حتى باتت أعماله بمثابة وثائق ثقافية وفكرية تروي مراحل دقيقة من تاريخ لبنان والمنطقة، وتفتح العيون على الواقع بمزيج من السخرية الموجعة والوعي النقي. أعماله المسرحية الخالدة مثل “فيلم أميركي طويل” و”بخصوص الكرامة والشعب العنيد”، وأغانيه الثائرة والعميقة، لا تزال تتردد في وجدان كل من استمع إليها وفهم رسائلها التي لا تزال صالحة لكل زمان.
اليوم، وهو يغادرنا إلى عالم آخر، بقيت موسيقاه وكلماته عصية على النسيان، حية في الذاكرة والقلوب، تشهد على عبقرية رجل عاش فنه حتى الرمق الأخير، وجعل من الحرف واللحن قضية. هكذا هو الرحباني، يرحل جسدًا، لكنه يظل حيًا بيننا في كل نغمة وكلمة ونبضة وطنية صادقة، باقية على مدار الأيام كأنها لا تعرف الموت.