بقلوب يعتصرها الحزن وعيون لا تكفيها الدموع، ودّعت السيدة فيروز ابنها الموسيقار الكبير زياد الرحباني، ذلك الفنان الاستثنائي الذي لم يكن مجرد موسيقي أو ملحن أو كاتب، بل كان حالة فنية فريدة شكّلت وجدان أجيال وعبّرت بصوت صارخ عن أحوال الوطن والناس. برحيله، لا تفقد فيروز ابنها فقط، بل يخسر العالم العربي أحد أعمدته الثقافية ومجددًا حقيقيًا للموسيقى والمسرح والكلمة.
زياد، ذلك المتمرد الهادئ، حمل منذ بداياته مشعل الثورة على القوالب التقليدية، فكان يسير بعكس التيار دائمًا. لم يرث فقط عبقرية الرحابنة، بل اختار أن يضيف إليها نكهته الخاصة، التي تمزج بين السخرية اللاذعة، والوعي السياسي، والجرأة الاجتماعية، بأسلوب ساخر ومؤلم في آنٍ واحد. كانت موسيقاه مرآة عميقة لحال المجتمع اللبناني والعربي، وكلماته كثيرًا ما تجاوزت الخطوط الحمراء لتقول ما لا يُقال، وتكشف عن واقع مغلّف بالنفاق أو الألم أو الصمت.
في كل لحن كتبه، كانت هناك رسالة، وفي كل عرض مسرحي قدّمه كان هناك نقد ذكي مغلف بالكوميديا السوداء. لم يكن فن زياد سهلًا ولا مريحًا، بل كان صادمًا، مثيرًا، مستفزًا للتفكير. لكنه في المقابل، كان صادقًا لدرجة أن كل من استمع إليه أحس أنه يعبر عنه، عن قلقه، عن حزنه، عن أسئلته التي لم يجب عنها أحد.
لكن الأجمل من كل ذلك، أن زياد الرحباني لم يكن فقط ثائرًا في مضمونه، بل في أسلوبه الموسيقي أيضًا. جدد في التوزيع، ودمج بين الجاز والموسيقى الشرقية، وخلق ألوانًا موسيقية جديدة أظهرت صوت فيروز في أبعاد أخرى لم نعرفها من قبل. جعلها قريبة من الشارع، من الناس البسطاء، من الحب الواقعي لا الرومانسي، ومن الألم الصادق لا الخيالي. فبدلاً من أن تبقى فيروز الصوت السماوي الذي يُغني من أعلى، قرّبها زياد إلى الأرض، لتغني للناس ومعهم، لا عنهم فقط.
واليوم، برحيل زياد، تخسر الحياة الفنية صوتًا مختلفًا، وموقفًا لا يُهادن، وعقلًا عبقريًا عرف كيف يلتقط نبض الشارع ليحوله إلى نغمة، كيف يروي سخرية القدر بكلمة، وكيف يُبكيك من كثرة الضحك. وقد تكون خسارته الأكبر في قلب فيروز، الأم والفنانة، التي فقدت ابنًا طالما كان ظلها الفني وامتدادها الفكري، بل ومرآتها العميقة التي عبّرت عنها بطرق لم يكن أحد غيره قادرًا عليها.
زياد الرحباني رحل، لكن صوته باقٍ، كلماته باقية، موسيقاه لا تموت، وأثره الفني والإنساني محفور في ذاكرة كل من أنصت له بقلبه. لقد ودعنا رجلًا قال الحقيقة بصوته الخاص، ورحل كما عاش.. حرًا، مستقلًا، لا يشبه أحدًا، ولا يتكرر.